السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سوف نتحدث عن الكاتب الروسي * انطون تشيخوف * فلنقرأ
بدأ أبي بتعليمي، أو بعبارة أبسط بدأ
يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري". هذا ما كتبه أنطون تشيخوف، الكاتب
الروسي، ملك القصة القصيرة، الكاتب المسرحي والإنسان والذي مرت في تموز
/يوليو الماضي الذكرى المئوية لوفاته مختصراً بهذه الكلمات الحية القاسية
التي فتح عينيه عليها. "كان أول ما يخطر لي حين أستيقظ في الصباح هو: هل
سأضرب هذا اليوم؟" يقول تشيخوف ذلك، بل إنه وصم أحد أصدقائه الأطفال
بالكذب عندما ذكر بأنه لم يضرب قط في البيت.
ولد أنطون تشيخوف في عام 1860 لأسرة
تنحدر من الأقنان. وشأن قصصه التي تبدو لدى قراءتها الأولى وكأنها خالية
من السمات الدراماتيكية فإن حياته تبدو للوهلة الأولى وكأنها قصة حياة
عادية. فقد جاهد جده كي يشتري حريته وحرية البعض من أبنائه بمن فيهم والد
أنطون، بافل يجوروفيتش من حياة الأقنان وذلك قبل سنوات من تحرير الأقنان
في روسيا عام 1861. غير أن نفسية القن ظلت تسيطر على الأب كما يقول
تشيخوف: "كان سادة جدي يضربونه، كما أن أحقر موظف كان يستطيع أن يصفعه على
وجهه بكل قسوة، ولذا كان يضرب أبي الذي أخذ يضربنا بدوره. أي نوع من
الأعصاب والدم هو الذي ورثناه؟" وفي موضع آخر يعلن تشيخوف: "لم أنعم بأي
طفولة في طفولتي!"
ولكن هل استسلم أنطون لهذا الإرث ولذلك
الدم الذي يجري في عروقه؟ سيرة حياته القصيرة التي لم تتجاوز الأعوام
الأربعة والأربعين يجملها بقوله في إحدى رسائله بأنه أخذ يعتصر العبد من
داخله شيئاً فشيئاً، قطرة قطرة إلى أن استيقظ في أحد الأيام، اللطيفة وهو
يشعر بأن دم إنسان حقيقي يجري في عروقه عوضاً عن دم العبيد.
ولد أنطون تشيخوف وأشقاؤه الستة إذن في
بلدة "تاجانروج" التي تقع على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحر قزوين في شمالي
القوقاز وتاجانروج هذه وهي ميناء أنشأه القيصر بطرس الأكبر، شهدت ازدهاراً
في وقت من الأوقات، واستقر فيها عدد من التجار الأجانب، جلّهم من
اليونانيين الذين كوّنوا نوعاً من الارستقراطية المالية واتخذوا لأنفسهم
دور السيادة على السكان الأصليين. ولكنها ما لبثت أن عادت إلى عالم
النسيان بحيث كانت قد تحولت قبيل ولادة تشيخوف إلى مدينة أشباح، كان سكان
المدينة من الروس هم من العمال غير المهرة وحمّالي السفن والكتبة وأصحاب
الحوانيت، شأن بافل ييجوروفيتش وكانوا يحتالون على الحياة ليتدبروا
أمورهم، في حين يختال الأجانب من السكان وكأنهم الديوك الرومية.
مزيج من مشاعر القرف والحب، والتمرد
والاستسلام تتنازع أنطون وهو يجد نفسه مدفوناً في هذه المدينة الصماء.
كانت عائلته تجد صعوبة شديدة في تدبير أمور حياة أطفالها الستة، خصوصاً
وأن الأب كان منشغلاً عن عمله في الحانوت بالأمور الفنية. فقد علّم نفسه
العزف على الكمان كما أصبح رساماً كفؤاً يرسم الأيقونات الدينية، غير أن
هذه الميول الفنية كانت بلوى بالنسبة لأبنائه، لا لأنه أهمل عمله بسببها
فحسب بل لأنها دفعته لتعريض أولاده لقسوة بدنية لا داعي لها. فحبه
للموسيقى الدينية دفعه لتدريب أبنائه على الغناء في جوقة الكنيسة قبل أن
يبلغوا سن دخول المدرسة بحيث كان عليم أن يستيقظوا قبل طلوع الفجر ليشقوا
طريقهم إلى الكنيسة مهما كانت حالة الطقس. ولقد كتب تشيخوف بعدما يربو على
ربع قرن من ذلك التاريخ: كنا نحن الأطفال نشعر وكأننا محكومون نؤدي عقوبة
طويلة الأجل من الأشغال الشاقة. كما يقول عن معاملة أبيه في رسالة لأخيه
بعد أن شارف على الثلاثين من عمره: "أود أن أذكّرك بأن الاستبداد
والأكاذيب دمرت شباب أمك كما دمرت طفولتنا. بحيث أنني أحس بالرعب والغثيان
حين أفكر بها في الوقت الحاضر. الاستبداد سلوك إجرامي إلى أبعد حد".
الخلفية التي برزت فيها شخصية هذا
الكاتب لتظهر على مسرح الحياة إذن هي خلفية كئيبة بحيث لم يجد مايقول في
بلدته بعد سنوات إلا أنها "قذرة وممّلة، شوارعها مهجورة وسكانها جهلة
كسالى". ولكن تشيخوف أدرك منذ مرحلة مبكرة من حياته إنه لن يمضي بقية عمره
في تاجانروج. ولذا كان يجلس بين أكياس الطحين وعناقيد النقانق في حانوت
والده وهو يحلم برحلة في طول روسيا وعرضها.
حياة الضنك هذه لاحقته حتى بعد انتقاله
وأسرته ليعيشوا في موسكو حيث بدأ يدرس الطب. أخذ في نفس الفترة يكتب القصص
في سبيل تدبير أمور معيشته ومعيشة أسرته على الرغم من أن أباه على قيد
الحياة وله أخوان اثنان يكبرانه سناً. فقد شعر منذ وقت مبكر بأن عليه هو
بالذات أن ينتشل أسرته من حياة الفقر تلك. الكتابة بالنسبة له كانت إذن
مجرد سبيل لكسب لقمة العيش.. ولكنه ظل بعد تخرجه يجمع بين مهنتي الطبيب
والكاتب.
هكذا جمع بين مهنة الطبيب ومهنة
الكاتب، وكان يحبهما كليهما إذ يقول: أشعر بتيقظ ونشوة أكبر حين أكبر حين
أدرك بأنني أمتلك مهنتين وليس مهنة واحدة. فالطب هو زوجتي الشرعية، أما
الأدب فهو عشيقتي. وحين أملّ إحداهما فإنني أتوجه إلى الأخرى لأقضي الليلة
معها".
ظل يكتب إذن بعد أن أنهى دراسته وأخذ
يرسم بقلمه، وكأنه فنان يمسك بريشته، خطوط بانوراما لروسيا في فترة حالكة
كانت تغمرها فيها حالة من الشعور بالمرارة والخيبة وتتنامى فيها بوادر
ثورة عارمة كان من شأنها أن تهز العالم من أقصاه إلى أقصاه. فخلال الفترة
التي كتب فيها تشيخوف الجزء الأكبر من إنتاجه القصصي، أي بين عامي 1880
و1900 كانت تجتاح بلاده حالة من المرارة نجمت عن إخفاق إصلاحات القيصر
ألكسندر الثاني في إحداث تغييرات بعيدة الأثر في حياة السواد الأعظم من
الروس. كما كانت البلاد تشهد ولادة طبقة الروليتاريا حيث كان الفلاحون
المعدمون يساقون من أراضيهم إلى المعامل المفتوحة حديثاً. وبما أن الروس
أكثر استعداداً للتعبير عما في دواخلهم بالمقارنة مع الشعوب الأخرى في
أوروبا فقد أنجبت روسيا في هذه الفترة معظم تلك الأسماء العظيمة الخالدة
في الأدب الروسي، أبرزهم تولتسوي ودوستويفسكي وتشيخوف.
من الانطباعات المبكرة لحياة تشيخوف
ربما نبع ذلك المقت الشديد للحياة الرتيبة للطبقة البرجوازية الرثة، وهو
ما عالجه في الكثير من قصصه ومسرحياته. وهو يقول على لسان أحد أبطاله في
مسرحية "الشقيقات الثلاث": "الناس هنا لا يفعلون شيئاً سوى الأكل والشرب
والنوم. ولإدخال بعض التنوّع على حياتهم وليتجنبوا الملل فإنهم ينغمسون في
النميمة التي تدعو للإشمئزاز، وفي شرب الفودكا والمقامرة. كل هذه الفظاظة
والتفاهة تسحق الأطفال وتخمد أي جذوة لديهم، لذا يتحولون هم أيضاً إلى
مخلوقات بائسة نصف ميتة، يماثل أحدهم الآخر تماماً ويصبحون مثل آبائهم
وأمهاتهم."
إلا أنه مهما كان تأثير تربية تشيخوف
المبكرة على شخصيته إلا أنها لم تخمد بالتأكيد تلك "الجذوة" الدفينة في
داخله. فكل السير التي كتبت عن تشيخوف تتحدث عن مرحه وحيويته. وقد أظهر
منذ أن كان فتى يافعاً شجاعة وميلاً للمزاح لم يفارقاه حتى وهو على فراش
الموت. فقبل ساعات من وفاته جلس في سريره وأخذ يبتدع قصة مضحكة يرويها
لزوجته ليسرّي عنها ما هي فيه وهي تراه في نزعاته الأخيرة بحيث أخذت تضحك
من أعماق قلبها: كما أظهر طاقة هائلة على العمل وتعاطفاً إنسانياً رائعاً،
وهو يقول في رسالة لأخيه نيقولاي: "إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل ليل
نهار، والقراءة الدؤوبة، والدراسة والسيطرة على الإرادة. فكل ساعة من
الحياة ثمينة."
لم تكن تلك مجرد وصايا فارغة بل
دستوراً التزم به تمام الالتزام في حياته اليومية. وقد ظل تشيخوف شديد
التواضع في نظرته إلى كتاباته طوال حياته على الرغم مما حققه من شهرة، إذ
يقول في إحدى رسائله: "تتراكم خلفي جبالٌ من الأخطاء وأطنان من الورق
المليء بالكتابة.. وحياة نجاح مفاجئ. غير أنني ـ بالرغم من ذلك ـ أشعر
بأنني لم أكتب سطراً واحداً له قيمة أدبية حقيقية، وإنني أتوق للاختباء في
مكان ما لمدة خمس سنوات أو نحو ذلك لأنجز عملاً جاداً دؤوباً. عليّ أن
أدرس وأتعلم كل شيء من بدايته، إذ أنني ككاتب إنسان جهول تماماً".
ولكنه عندما أخذ يراجع مجموعة أعماله
تمهيداً لنشر المجلد السادس منها عام 1902 توصل تشيخوف إلى قناعة بأن
المبادئ الأساسية التي استندت عليها أعماله ظلت ثابتة على مدى سنوات عمله.
وهذه المبادئ هي البساطة، والصدق،
والوصف المقتصد والدقيق، وعدم إقحام
الكاتب لوجهات نظره في العمل.. فالمؤلف، بطرحه لقضية ما أو اقتراحه حلاً
للمعضلات التي يواجهها أبطاله إنما يحاول في رأيه استغلال القارئ دونما
حق، وعلى القارئ أن يتوصل إلى استنتاجاته الخاصة بمطلق حريته على أساس ما
يقدمه الكاتب من أدلة وبراهين.
وكلما تقدم به العمر كان يرى عمق
الرابطة بين أدبه وحياته: لا حوادث ملفتة للنظر، لا عبارات طنَّانة، لا
وقفات بطولية بل مجرد موسيقى خافتة، حميمة، مثيرة للمشاعر تكتنفها مناطق
رمادية محدودة وأسئلة قليلة تبقى دون إجابة. باختصار، أمور الحياة اليومية
العادية التافهة التي تجرّنا وتقربنا من الهاوية النهائية شيئاً فشيئاً.
ولقد قال للأديب الروسي تيخونوف: "كان هدفي دائماً هو أن أقو للناس بكل
صدق: تمعنوا بأنفسكم. تأملوا كم هي حياتكم سيئة ومملة، وهذا هو أهم ما يجب
أن يدركه الناس. وحينما يدركون هذا فإنهم بالتأكيد سيخلقون حياة جديدة
أفضل. وفي دفتر مذكراته يكشف عن نفس المفهوم إذ يقول: "يرتقي الإنسان حين
نكشف له حقيقته كما هي بالفعل بحيث يراها أمام ناظريه."
يتمسك تشيخوف بالبساطة المطلقة في
أسلوبه القصصي وفي شخوص مسرحياته، وحين كان الممثلون يطلبون منه إيضاح
كيفية أدائهم لأدوارهم كان يؤكد لهم بأن كل شيء يجب أن يكون بسيطاً شديد
البساطة، وأن الأمر الأساسي هو عدم اللجوء إلى الأسلوب المسرحي المصطنع.
وهو يقول إنه أراد تصوير الحياة الحقيقية كما يعيشها الناس العاديون وأنه
"يجب أن تكتب المسرحية بحيث يأتي فيها الناس ويذهبون، ويتناولون عشاءهم،
يتحدثون عن الطقس ويلعبون الورق.. يجب أن يتم تصوير حياتهم كما هي, والناس
كما هم في الواقع تماماً، وليس كأنهم يمشون فوق روافع خشبية تستطيل بها
قاماتهم".
اختط تشيخوف بذلك مساراً مختلفاً عما
ألفه الجمهور بحيث قلب التقاليد المسرحية بصورة شاملة وبحيث أحدث ما يمكن
وصفه بأنه ثورة في عالم المسرح. ولذا فإن مسرحياته الأولى كانت تلاقي
فشلاً ذريعاً لدى عرضها الأولي. ويقول ستانيسلافسكي الذي يعتبر أبا المسرح
الروسي الحديث في كتابه "حياتي مع الفن": "لا تتضح القوة الشعرية لمسرحيات
تشيخوف بجلاء لدى قراءتها الأولى. فبعد أن تنتهي من قراءتها تقول لنفسك:
جيدة، ولكن ليس فيها شيء خاص، شيء يدير الرأس إعجاباً. بل أن القراءة
الأولى قد تكون مخيّبة للآمال أحياناً، إذ تشعر بأنك غير قادر على أن تبدي
فيها رأياً محدداً. إلا أنك ما أن تستعيد بعض العبارات والمشاهد في ذهنك
حتى تشعر بأنك تود أن تمضي التفكير فيها من جديد، وحينذاك تدرك مدى العمق
الذي يختفي تحت السطح الخارجي...."
ويضيف ستانيسلافسكي: "تشيخوف معين لا
ينضب. فعلى الرغم من أنه يصوّر ظاهرياً الحياة اليومية العادية إلا أنه في
الحقيقة لا يتناول الأمور العابرة أو المحدودة حين يطرح تلك القضايا التي
تتعلق بالإنسان أينما كان. فالإنسان في الواقع هو الفكرة الروحية المهيمنة
التي تتكرر في كل مسرحياته".
أما الكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي
فهو يقول: "ظل تشيخوف طوال حياته يعيش حياة الروح، لا يتكلَّف على
الإطلاق. يحاول أن يكون حراً في داخله...، لا يلقي بالاً إلى ما يتوقعه
وينتظره الآخرون من أنطون تشيخوف، أو ما قد يتطلبه منه أولئك الناس الأقل
رقة ونعومة.... وبحكِم بساطته الرائعة كان مغرماً بكل ما هو بسيط وجوهري
وصادق، كما يتمتع بأسلوبه الخاص في حمل الآخرين على التحلي بالبساطة...."
ويضيف جوركي: "تلتمع في عينيه
الرماديتين الحزينتين بشكل شبه مستمر نظرة سخرية رقيقة. إلا أنها تتحول
أحياناً لتصبح باردة حادة قاسية، وحينذاك تتسرّب إلى صوته الرقيق الودود
نبرة حادة، ويتراءى لي عندئذ بأن هذا الإنسان الرقيق المتواضع يستطيع
الوقوف في وجه أي قوة معادية، وأن وقفته هذه ستكون صلبة لا تلين".
ويختم جوركي بالقول: "ما أحسن أن يتذكر
المرء إنساناً من هذا النوع، فهو يحسّ وكأنما هو طيف من السعادة والانشراح
يزوره ليعطيه معنى واضحاً للحياة من جديد...."
أما لينين فقد قال بعد أن قرأ قصته
"العنبر 6" التي تصور أوضاع المرضى في مستشفى للأمراض العقلية: إن العنبر
6 إنما كانت تصور الحياة في روسيا برمتها في ذلك الحين.
آخر قصص تشيخوف كانت قصة "العروس" أما
آخر مسرحياته فهي "بستان الكرز". وأعماله التي تعد بالمئات منها ما هو
شديد القصر وبعضها طويل، ويقول فيها هنري ترويا الذي يعتبر من أفضل من كتب
سيرة تشيخوف وغيره من أعلام الأدب الروسي بمن فيهم تولستوي وديستويفسكي إن
هذه الأعمال بمجموعها تشكل بانوراما لم يسبق لها مثيل في الحياة الروسية.
فجميع الطبقات الاجتماعية في المجتمع الروسي، من الفلاح إلى القس، ومن
أستاذ الجامعة إلى الحوذي، ومن الطالب إلى التاجر، كلهم يجدون لهم مكاناً
في هذه الكوميديا الإنسانية. وقراءة قصص تشيخوف ومسرحياته تماثل القيام
برحلة على متن دوّامة سريعة تنقل القارئ في أرجاء روسيا في أواخر القرن
التاسع عشر برفقة دليلٍ صافي التفكير، رابط الجأش يطلعك على كل ما هنالك
ولكنه يتجنب التعليق".
ويضيف ترويا: "وحدة أسلوب تشيخوف من
بداية السلسلة إلى نهايتها وحدة مذهلة. وكما قال في رسالة لشقيقه الكسندر
حين كان العقد الأول من حياته الأدبية يوشك على الانقضاء: "الإيجاز قرين
الموهبة".
ويقول ترويا: "ما لبث النقاد المرموقون
والجمهور عامة أن توصلوا إلى قناعة أكيدة أن تشيخوف واحد من أساطين الأدب.
فما الذي أضافه إلى ما كتبه غوغول وديستويفسكي وكوركنيف وتولستوي بحيث
يبرز المديح الذي حظي به من معاصريه. مزيتان رئيسيتان،" يضيف ترويا، "هما
الصدق والاعتدال. فأسلافه المرموقون إنما كانوا يحثون، كل بطريقته، إلى
الانفعال العاصف. فهم يأسرون قراءهم بالوصول بالأمور إلى أقصاها. كما أن
وصفهم ينحو إلى الغنائية الشديدة واللغة السحرية. أما تشيخوف فكان أول من
تكلم بصوت خفيض هامس، وبأسلوب ينم عن الثقة بمن يخاطبه".
ويضيف ترويا: "ينحو تشيخوف إلى
الاقتصاد في الكلمات بحيث أن لكل كلمة من كلماته أهميتها المستترة. وعلى
العكس من الآخرين الذين ينحون باتجاه دعم القارئ عاطفياً ويضحكون معه
ويبكون فإن تشيخوف يواجه القارئ بالأحداث والشخصيات وجهاً لوجه ثم يترك له
حرية التصرف، وأقصى ما يفعله هو أن يبقي القارئ في حالة توتر عصبي، ثم
ينقره بتفاصيل صغيرة يلقي بها في الموضوع المناسب. وهكذا، وبدون عبارات
توضيحية، وبضربة مفاجئة واحدة يجد القارئ نفسه وقد فهم الشخصيات فهماً
عميقاً. والمرء لا يقرأ قصة لتشيخوف أو يشاهد مسرحية من مسرحياته وهو في
حالة نشوة سلبية، بل ينغمس في الحدث ويشارك فيه، باستمرار فهو لا يلجأ
لعلف قراته قسراً بما يريد قوله بل يجعل منهم مشاركين ومتواطئين معه فيما
يحدث."
على الرغم من كل تواضعه فإن تشيخوف كان
يدرك أنه ابتدع أسلوباً جديداً في التفكير وفي الكتابة في روسيا، وقد قال
لجوركي: "السبل التي فتحتها ستبقى سليمة وصامدة، وهنا تكمن كل قيمتي".
أما تولستوي فقد أرسل له لدى اشتداد
المرض على تشيخوف ليرفع من معنوياته صورة بتوقيعه وقائمة بثلاثين قصة من
القصص التي يعتبرها أفضل ما كتبه تشيخوف حتى ذلك الحين وقد جمعها في مجلد
واحد ليعيد قراءتها باستمرار. وقد قسّمها تولستوي إلى صنفين، خمس عشرة
منها صنّفها على نخب أول، وخمس عشرة أخرى صنفها على أنها نخب ثان. ولقد
عُرف عن تولستوي قوله: "تشيخوف هو بوشكين الأدب النثري".
كما ينقل جوركي عن تولستوي قوله بعد أن
قرأ قصة "الحبيبة" لتشيخوف: "إنها مثل الدانتيلا التي تنتجها فتاة عذراء
عفيفة طاهرة، كانت هناك في الماضي فتيات ينسجن الدانتيلا، وكن ينسجن أحلام
حياتهن طوال الوقت في داخل رسوم الدانتيلا التي يشكلنها. ينسجن أعز
أحلامهن بحيث تصبح تلك الدانتيلا مشبعة بتطلعاتهن الغامضةالنقية عن الحب".
ويضيف جوركي: "كان تولستوي يتحدث بعاطفة جياشة والدموع تترقرق في عينيه".
تــــحــــيــــاتــــــي
سوف نتحدث عن الكاتب الروسي * انطون تشيخوف * فلنقرأ
بدأ أبي بتعليمي، أو بعبارة أبسط بدأ
يضربني قبل أن أبلغ الخامسة من عمري". هذا ما كتبه أنطون تشيخوف، الكاتب
الروسي، ملك القصة القصيرة، الكاتب المسرحي والإنسان والذي مرت في تموز
/يوليو الماضي الذكرى المئوية لوفاته مختصراً بهذه الكلمات الحية القاسية
التي فتح عينيه عليها. "كان أول ما يخطر لي حين أستيقظ في الصباح هو: هل
سأضرب هذا اليوم؟" يقول تشيخوف ذلك، بل إنه وصم أحد أصدقائه الأطفال
بالكذب عندما ذكر بأنه لم يضرب قط في البيت.
ولد أنطون تشيخوف في عام 1860 لأسرة
تنحدر من الأقنان. وشأن قصصه التي تبدو لدى قراءتها الأولى وكأنها خالية
من السمات الدراماتيكية فإن حياته تبدو للوهلة الأولى وكأنها قصة حياة
عادية. فقد جاهد جده كي يشتري حريته وحرية البعض من أبنائه بمن فيهم والد
أنطون، بافل يجوروفيتش من حياة الأقنان وذلك قبل سنوات من تحرير الأقنان
في روسيا عام 1861. غير أن نفسية القن ظلت تسيطر على الأب كما يقول
تشيخوف: "كان سادة جدي يضربونه، كما أن أحقر موظف كان يستطيع أن يصفعه على
وجهه بكل قسوة، ولذا كان يضرب أبي الذي أخذ يضربنا بدوره. أي نوع من
الأعصاب والدم هو الذي ورثناه؟" وفي موضع آخر يعلن تشيخوف: "لم أنعم بأي
طفولة في طفولتي!"
ولكن هل استسلم أنطون لهذا الإرث ولذلك
الدم الذي يجري في عروقه؟ سيرة حياته القصيرة التي لم تتجاوز الأعوام
الأربعة والأربعين يجملها بقوله في إحدى رسائله بأنه أخذ يعتصر العبد من
داخله شيئاً فشيئاً، قطرة قطرة إلى أن استيقظ في أحد الأيام، اللطيفة وهو
يشعر بأن دم إنسان حقيقي يجري في عروقه عوضاً عن دم العبيد.
ولد أنطون تشيخوف وأشقاؤه الستة إذن في
بلدة "تاجانروج" التي تقع على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحر قزوين في شمالي
القوقاز وتاجانروج هذه وهي ميناء أنشأه القيصر بطرس الأكبر، شهدت ازدهاراً
في وقت من الأوقات، واستقر فيها عدد من التجار الأجانب، جلّهم من
اليونانيين الذين كوّنوا نوعاً من الارستقراطية المالية واتخذوا لأنفسهم
دور السيادة على السكان الأصليين. ولكنها ما لبثت أن عادت إلى عالم
النسيان بحيث كانت قد تحولت قبيل ولادة تشيخوف إلى مدينة أشباح، كان سكان
المدينة من الروس هم من العمال غير المهرة وحمّالي السفن والكتبة وأصحاب
الحوانيت، شأن بافل ييجوروفيتش وكانوا يحتالون على الحياة ليتدبروا
أمورهم، في حين يختال الأجانب من السكان وكأنهم الديوك الرومية.
مزيج من مشاعر القرف والحب، والتمرد
والاستسلام تتنازع أنطون وهو يجد نفسه مدفوناً في هذه المدينة الصماء.
كانت عائلته تجد صعوبة شديدة في تدبير أمور حياة أطفالها الستة، خصوصاً
وأن الأب كان منشغلاً عن عمله في الحانوت بالأمور الفنية. فقد علّم نفسه
العزف على الكمان كما أصبح رساماً كفؤاً يرسم الأيقونات الدينية، غير أن
هذه الميول الفنية كانت بلوى بالنسبة لأبنائه، لا لأنه أهمل عمله بسببها
فحسب بل لأنها دفعته لتعريض أولاده لقسوة بدنية لا داعي لها. فحبه
للموسيقى الدينية دفعه لتدريب أبنائه على الغناء في جوقة الكنيسة قبل أن
يبلغوا سن دخول المدرسة بحيث كان عليم أن يستيقظوا قبل طلوع الفجر ليشقوا
طريقهم إلى الكنيسة مهما كانت حالة الطقس. ولقد كتب تشيخوف بعدما يربو على
ربع قرن من ذلك التاريخ: كنا نحن الأطفال نشعر وكأننا محكومون نؤدي عقوبة
طويلة الأجل من الأشغال الشاقة. كما يقول عن معاملة أبيه في رسالة لأخيه
بعد أن شارف على الثلاثين من عمره: "أود أن أذكّرك بأن الاستبداد
والأكاذيب دمرت شباب أمك كما دمرت طفولتنا. بحيث أنني أحس بالرعب والغثيان
حين أفكر بها في الوقت الحاضر. الاستبداد سلوك إجرامي إلى أبعد حد".
الخلفية التي برزت فيها شخصية هذا
الكاتب لتظهر على مسرح الحياة إذن هي خلفية كئيبة بحيث لم يجد مايقول في
بلدته بعد سنوات إلا أنها "قذرة وممّلة، شوارعها مهجورة وسكانها جهلة
كسالى". ولكن تشيخوف أدرك منذ مرحلة مبكرة من حياته إنه لن يمضي بقية عمره
في تاجانروج. ولذا كان يجلس بين أكياس الطحين وعناقيد النقانق في حانوت
والده وهو يحلم برحلة في طول روسيا وعرضها.
حياة الضنك هذه لاحقته حتى بعد انتقاله
وأسرته ليعيشوا في موسكو حيث بدأ يدرس الطب. أخذ في نفس الفترة يكتب القصص
في سبيل تدبير أمور معيشته ومعيشة أسرته على الرغم من أن أباه على قيد
الحياة وله أخوان اثنان يكبرانه سناً. فقد شعر منذ وقت مبكر بأن عليه هو
بالذات أن ينتشل أسرته من حياة الفقر تلك. الكتابة بالنسبة له كانت إذن
مجرد سبيل لكسب لقمة العيش.. ولكنه ظل بعد تخرجه يجمع بين مهنتي الطبيب
والكاتب.
هكذا جمع بين مهنة الطبيب ومهنة
الكاتب، وكان يحبهما كليهما إذ يقول: أشعر بتيقظ ونشوة أكبر حين أكبر حين
أدرك بأنني أمتلك مهنتين وليس مهنة واحدة. فالطب هو زوجتي الشرعية، أما
الأدب فهو عشيقتي. وحين أملّ إحداهما فإنني أتوجه إلى الأخرى لأقضي الليلة
معها".
ظل يكتب إذن بعد أن أنهى دراسته وأخذ
يرسم بقلمه، وكأنه فنان يمسك بريشته، خطوط بانوراما لروسيا في فترة حالكة
كانت تغمرها فيها حالة من الشعور بالمرارة والخيبة وتتنامى فيها بوادر
ثورة عارمة كان من شأنها أن تهز العالم من أقصاه إلى أقصاه. فخلال الفترة
التي كتب فيها تشيخوف الجزء الأكبر من إنتاجه القصصي، أي بين عامي 1880
و1900 كانت تجتاح بلاده حالة من المرارة نجمت عن إخفاق إصلاحات القيصر
ألكسندر الثاني في إحداث تغييرات بعيدة الأثر في حياة السواد الأعظم من
الروس. كما كانت البلاد تشهد ولادة طبقة الروليتاريا حيث كان الفلاحون
المعدمون يساقون من أراضيهم إلى المعامل المفتوحة حديثاً. وبما أن الروس
أكثر استعداداً للتعبير عما في دواخلهم بالمقارنة مع الشعوب الأخرى في
أوروبا فقد أنجبت روسيا في هذه الفترة معظم تلك الأسماء العظيمة الخالدة
في الأدب الروسي، أبرزهم تولتسوي ودوستويفسكي وتشيخوف.
من الانطباعات المبكرة لحياة تشيخوف
ربما نبع ذلك المقت الشديد للحياة الرتيبة للطبقة البرجوازية الرثة، وهو
ما عالجه في الكثير من قصصه ومسرحياته. وهو يقول على لسان أحد أبطاله في
مسرحية "الشقيقات الثلاث": "الناس هنا لا يفعلون شيئاً سوى الأكل والشرب
والنوم. ولإدخال بعض التنوّع على حياتهم وليتجنبوا الملل فإنهم ينغمسون في
النميمة التي تدعو للإشمئزاز، وفي شرب الفودكا والمقامرة. كل هذه الفظاظة
والتفاهة تسحق الأطفال وتخمد أي جذوة لديهم، لذا يتحولون هم أيضاً إلى
مخلوقات بائسة نصف ميتة، يماثل أحدهم الآخر تماماً ويصبحون مثل آبائهم
وأمهاتهم."
إلا أنه مهما كان تأثير تربية تشيخوف
المبكرة على شخصيته إلا أنها لم تخمد بالتأكيد تلك "الجذوة" الدفينة في
داخله. فكل السير التي كتبت عن تشيخوف تتحدث عن مرحه وحيويته. وقد أظهر
منذ أن كان فتى يافعاً شجاعة وميلاً للمزاح لم يفارقاه حتى وهو على فراش
الموت. فقبل ساعات من وفاته جلس في سريره وأخذ يبتدع قصة مضحكة يرويها
لزوجته ليسرّي عنها ما هي فيه وهي تراه في نزعاته الأخيرة بحيث أخذت تضحك
من أعماق قلبها: كما أظهر طاقة هائلة على العمل وتعاطفاً إنسانياً رائعاً،
وهو يقول في رسالة لأخيه نيقولاي: "إن ما يحتاجه الإنسان هو العمل ليل
نهار، والقراءة الدؤوبة، والدراسة والسيطرة على الإرادة. فكل ساعة من
الحياة ثمينة."
لم تكن تلك مجرد وصايا فارغة بل
دستوراً التزم به تمام الالتزام في حياته اليومية. وقد ظل تشيخوف شديد
التواضع في نظرته إلى كتاباته طوال حياته على الرغم مما حققه من شهرة، إذ
يقول في إحدى رسائله: "تتراكم خلفي جبالٌ من الأخطاء وأطنان من الورق
المليء بالكتابة.. وحياة نجاح مفاجئ. غير أنني ـ بالرغم من ذلك ـ أشعر
بأنني لم أكتب سطراً واحداً له قيمة أدبية حقيقية، وإنني أتوق للاختباء في
مكان ما لمدة خمس سنوات أو نحو ذلك لأنجز عملاً جاداً دؤوباً. عليّ أن
أدرس وأتعلم كل شيء من بدايته، إذ أنني ككاتب إنسان جهول تماماً".
ولكنه عندما أخذ يراجع مجموعة أعماله
تمهيداً لنشر المجلد السادس منها عام 1902 توصل تشيخوف إلى قناعة بأن
المبادئ الأساسية التي استندت عليها أعماله ظلت ثابتة على مدى سنوات عمله.
وهذه المبادئ هي البساطة، والصدق،
والوصف المقتصد والدقيق، وعدم إقحام
الكاتب لوجهات نظره في العمل.. فالمؤلف، بطرحه لقضية ما أو اقتراحه حلاً
للمعضلات التي يواجهها أبطاله إنما يحاول في رأيه استغلال القارئ دونما
حق، وعلى القارئ أن يتوصل إلى استنتاجاته الخاصة بمطلق حريته على أساس ما
يقدمه الكاتب من أدلة وبراهين.
وكلما تقدم به العمر كان يرى عمق
الرابطة بين أدبه وحياته: لا حوادث ملفتة للنظر، لا عبارات طنَّانة، لا
وقفات بطولية بل مجرد موسيقى خافتة، حميمة، مثيرة للمشاعر تكتنفها مناطق
رمادية محدودة وأسئلة قليلة تبقى دون إجابة. باختصار، أمور الحياة اليومية
العادية التافهة التي تجرّنا وتقربنا من الهاوية النهائية شيئاً فشيئاً.
ولقد قال للأديب الروسي تيخونوف: "كان هدفي دائماً هو أن أقو للناس بكل
صدق: تمعنوا بأنفسكم. تأملوا كم هي حياتكم سيئة ومملة، وهذا هو أهم ما يجب
أن يدركه الناس. وحينما يدركون هذا فإنهم بالتأكيد سيخلقون حياة جديدة
أفضل. وفي دفتر مذكراته يكشف عن نفس المفهوم إذ يقول: "يرتقي الإنسان حين
نكشف له حقيقته كما هي بالفعل بحيث يراها أمام ناظريه."
يتمسك تشيخوف بالبساطة المطلقة في
أسلوبه القصصي وفي شخوص مسرحياته، وحين كان الممثلون يطلبون منه إيضاح
كيفية أدائهم لأدوارهم كان يؤكد لهم بأن كل شيء يجب أن يكون بسيطاً شديد
البساطة، وأن الأمر الأساسي هو عدم اللجوء إلى الأسلوب المسرحي المصطنع.
وهو يقول إنه أراد تصوير الحياة الحقيقية كما يعيشها الناس العاديون وأنه
"يجب أن تكتب المسرحية بحيث يأتي فيها الناس ويذهبون، ويتناولون عشاءهم،
يتحدثون عن الطقس ويلعبون الورق.. يجب أن يتم تصوير حياتهم كما هي, والناس
كما هم في الواقع تماماً، وليس كأنهم يمشون فوق روافع خشبية تستطيل بها
قاماتهم".
اختط تشيخوف بذلك مساراً مختلفاً عما
ألفه الجمهور بحيث قلب التقاليد المسرحية بصورة شاملة وبحيث أحدث ما يمكن
وصفه بأنه ثورة في عالم المسرح. ولذا فإن مسرحياته الأولى كانت تلاقي
فشلاً ذريعاً لدى عرضها الأولي. ويقول ستانيسلافسكي الذي يعتبر أبا المسرح
الروسي الحديث في كتابه "حياتي مع الفن": "لا تتضح القوة الشعرية لمسرحيات
تشيخوف بجلاء لدى قراءتها الأولى. فبعد أن تنتهي من قراءتها تقول لنفسك:
جيدة، ولكن ليس فيها شيء خاص، شيء يدير الرأس إعجاباً. بل أن القراءة
الأولى قد تكون مخيّبة للآمال أحياناً، إذ تشعر بأنك غير قادر على أن تبدي
فيها رأياً محدداً. إلا أنك ما أن تستعيد بعض العبارات والمشاهد في ذهنك
حتى تشعر بأنك تود أن تمضي التفكير فيها من جديد، وحينذاك تدرك مدى العمق
الذي يختفي تحت السطح الخارجي...."
ويضيف ستانيسلافسكي: "تشيخوف معين لا
ينضب. فعلى الرغم من أنه يصوّر ظاهرياً الحياة اليومية العادية إلا أنه في
الحقيقة لا يتناول الأمور العابرة أو المحدودة حين يطرح تلك القضايا التي
تتعلق بالإنسان أينما كان. فالإنسان في الواقع هو الفكرة الروحية المهيمنة
التي تتكرر في كل مسرحياته".
أما الكاتب الروسي الشهير مكسيم جوركي
فهو يقول: "ظل تشيخوف طوال حياته يعيش حياة الروح، لا يتكلَّف على
الإطلاق. يحاول أن يكون حراً في داخله...، لا يلقي بالاً إلى ما يتوقعه
وينتظره الآخرون من أنطون تشيخوف، أو ما قد يتطلبه منه أولئك الناس الأقل
رقة ونعومة.... وبحكِم بساطته الرائعة كان مغرماً بكل ما هو بسيط وجوهري
وصادق، كما يتمتع بأسلوبه الخاص في حمل الآخرين على التحلي بالبساطة...."
ويضيف جوركي: "تلتمع في عينيه
الرماديتين الحزينتين بشكل شبه مستمر نظرة سخرية رقيقة. إلا أنها تتحول
أحياناً لتصبح باردة حادة قاسية، وحينذاك تتسرّب إلى صوته الرقيق الودود
نبرة حادة، ويتراءى لي عندئذ بأن هذا الإنسان الرقيق المتواضع يستطيع
الوقوف في وجه أي قوة معادية، وأن وقفته هذه ستكون صلبة لا تلين".
ويختم جوركي بالقول: "ما أحسن أن يتذكر
المرء إنساناً من هذا النوع، فهو يحسّ وكأنما هو طيف من السعادة والانشراح
يزوره ليعطيه معنى واضحاً للحياة من جديد...."
أما لينين فقد قال بعد أن قرأ قصته
"العنبر 6" التي تصور أوضاع المرضى في مستشفى للأمراض العقلية: إن العنبر
6 إنما كانت تصور الحياة في روسيا برمتها في ذلك الحين.
آخر قصص تشيخوف كانت قصة "العروس" أما
آخر مسرحياته فهي "بستان الكرز". وأعماله التي تعد بالمئات منها ما هو
شديد القصر وبعضها طويل، ويقول فيها هنري ترويا الذي يعتبر من أفضل من كتب
سيرة تشيخوف وغيره من أعلام الأدب الروسي بمن فيهم تولستوي وديستويفسكي إن
هذه الأعمال بمجموعها تشكل بانوراما لم يسبق لها مثيل في الحياة الروسية.
فجميع الطبقات الاجتماعية في المجتمع الروسي، من الفلاح إلى القس، ومن
أستاذ الجامعة إلى الحوذي، ومن الطالب إلى التاجر، كلهم يجدون لهم مكاناً
في هذه الكوميديا الإنسانية. وقراءة قصص تشيخوف ومسرحياته تماثل القيام
برحلة على متن دوّامة سريعة تنقل القارئ في أرجاء روسيا في أواخر القرن
التاسع عشر برفقة دليلٍ صافي التفكير، رابط الجأش يطلعك على كل ما هنالك
ولكنه يتجنب التعليق".
ويضيف ترويا: "وحدة أسلوب تشيخوف من
بداية السلسلة إلى نهايتها وحدة مذهلة. وكما قال في رسالة لشقيقه الكسندر
حين كان العقد الأول من حياته الأدبية يوشك على الانقضاء: "الإيجاز قرين
الموهبة".
ويقول ترويا: "ما لبث النقاد المرموقون
والجمهور عامة أن توصلوا إلى قناعة أكيدة أن تشيخوف واحد من أساطين الأدب.
فما الذي أضافه إلى ما كتبه غوغول وديستويفسكي وكوركنيف وتولستوي بحيث
يبرز المديح الذي حظي به من معاصريه. مزيتان رئيسيتان،" يضيف ترويا، "هما
الصدق والاعتدال. فأسلافه المرموقون إنما كانوا يحثون، كل بطريقته، إلى
الانفعال العاصف. فهم يأسرون قراءهم بالوصول بالأمور إلى أقصاها. كما أن
وصفهم ينحو إلى الغنائية الشديدة واللغة السحرية. أما تشيخوف فكان أول من
تكلم بصوت خفيض هامس، وبأسلوب ينم عن الثقة بمن يخاطبه".
ويضيف ترويا: "ينحو تشيخوف إلى
الاقتصاد في الكلمات بحيث أن لكل كلمة من كلماته أهميتها المستترة. وعلى
العكس من الآخرين الذين ينحون باتجاه دعم القارئ عاطفياً ويضحكون معه
ويبكون فإن تشيخوف يواجه القارئ بالأحداث والشخصيات وجهاً لوجه ثم يترك له
حرية التصرف، وأقصى ما يفعله هو أن يبقي القارئ في حالة توتر عصبي، ثم
ينقره بتفاصيل صغيرة يلقي بها في الموضوع المناسب. وهكذا، وبدون عبارات
توضيحية، وبضربة مفاجئة واحدة يجد القارئ نفسه وقد فهم الشخصيات فهماً
عميقاً. والمرء لا يقرأ قصة لتشيخوف أو يشاهد مسرحية من مسرحياته وهو في
حالة نشوة سلبية، بل ينغمس في الحدث ويشارك فيه، باستمرار فهو لا يلجأ
لعلف قراته قسراً بما يريد قوله بل يجعل منهم مشاركين ومتواطئين معه فيما
يحدث."
على الرغم من كل تواضعه فإن تشيخوف كان
يدرك أنه ابتدع أسلوباً جديداً في التفكير وفي الكتابة في روسيا، وقد قال
لجوركي: "السبل التي فتحتها ستبقى سليمة وصامدة، وهنا تكمن كل قيمتي".
أما تولستوي فقد أرسل له لدى اشتداد
المرض على تشيخوف ليرفع من معنوياته صورة بتوقيعه وقائمة بثلاثين قصة من
القصص التي يعتبرها أفضل ما كتبه تشيخوف حتى ذلك الحين وقد جمعها في مجلد
واحد ليعيد قراءتها باستمرار. وقد قسّمها تولستوي إلى صنفين، خمس عشرة
منها صنّفها على نخب أول، وخمس عشرة أخرى صنفها على أنها نخب ثان. ولقد
عُرف عن تولستوي قوله: "تشيخوف هو بوشكين الأدب النثري".
كما ينقل جوركي عن تولستوي قوله بعد أن
قرأ قصة "الحبيبة" لتشيخوف: "إنها مثل الدانتيلا التي تنتجها فتاة عذراء
عفيفة طاهرة، كانت هناك في الماضي فتيات ينسجن الدانتيلا، وكن ينسجن أحلام
حياتهن طوال الوقت في داخل رسوم الدانتيلا التي يشكلنها. ينسجن أعز
أحلامهن بحيث تصبح تلك الدانتيلا مشبعة بتطلعاتهن الغامضةالنقية عن الحب".
ويضيف جوركي: "كان تولستوي يتحدث بعاطفة جياشة والدموع تترقرق في عينيه".
تــــحــــيــــاتــــــي